ألحق الصراع الدائر في سوريا، والذي دخل الآن عامه الثاني عشر، دمارًا هائلًا وخسائر تفوق الخيال بالشعب السوري واقتصاده. فقد نزح أكثر من نصف السكان قبل الصراع (البالغ عددهم نحو 21 مليون نسمة) سواء داخلياً أو كلاجئين، معظمهم في البلدان المجاورة. ونتيجة لتدمير رأس المال المادي، والخسائر البشرية، والنزوح القسري، وتفكك الشبكات الاقتصادية، انكمش إجمالي الناتج المحلي في سوريا بأكثر من النصف بين عامي 2010 و2020. ودفع الانخفاض الكبير في نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي البنك الدولي إلى إعادة تصنيف سوريا كبلد منخفض الدخل منذ عام 2018.
وتُعد الآثار الاجتماعية والاقتصادية للصراع أيضاً كبيرة ومتنامية. فالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تشهد تدهوراً سريعاً في سوريا، متأثرة بمجموعة متنوعة من الصدمات، بما في ذلك الصراع المسلح الذي طال أمده، والعقوبات الاقتصادية، وجائحة كورونا، والجفاف الشديد، وتعمق الأزمة الاقتصادية في لبنان وتركيا المجاورتين، والعواقب الاقتصادية للحرب في أوكرانيا وما يرتبط بها من عقوبات. وأدى استمرار انخفاض قيمة العملة المحلية إلى تفشي التضخم، مما أدى إلى تآكل الأجور الحقيقية ودفع المزيد من الناس إلى براثن الفقر. ومنذ بداية الصراع، ارتفع معدل الفقر المدقع باستمرار، مما يعكس تدهور فرص كسب العيش والاستنزاف التدريجي لقدرات الأسر السورية على التكيف. وتدهورت بشدة إمكانية الحصول على المأوى وفرص كسب العيش والصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي منذ بداية الصراع. ومع تدهور نظام الرعاية الصحية بشدة في أعقاب الحرب التي دامت عشر سنوات، أدت جائحة كورونا إلى زيادة حرمان السكان القائم من قبل. وبالإضافة إلى ذلك، ارتفعت أسعار الوقود عدة مرات في عام 2022، مما أدى إلى زيادة انخفاض القوة الشرائية للأسر الأكثر احتياجاً. ومنذ أوائل عام 2022، أثر ارتفاع أسعار السلع الأولية بسبب الحرب في أوكرانيا سلباً على وضع سوريا كمستوردٍ صافٍ للمواد الغذائية والوقود. وفي أعقاب انخفاض إنتاج المحاصيل إلى مستوى قياسي في عام 2021، لا يزال محصول القمح منخفضاً في عام 2022 بسبب ظروف الجفاف ونقص المستلزمات الزراعية. وتأتي سوريا ضمن قائمة البلدان العشرة الأكثر معاناة من انعدام الأمن الغذائي على مستوى العالم.
تقييم تأثير الأزمة السورية
قبل نشوب الصراع، اقتصرت المساندة التي تقدمها مجموعة البنك الدولي لسوريا على المساعدة الفنية والخدمات الاستشارية بشأن تنمية القطاع الخاص، والتنمية البشرية، والحماية الاجتماعية، والاستدامة البيئية. وفي أعقاب اندلاع هذا الصراع في عام 2011، أوقف البنك الدولي جميع عملياته وبعثاته إلي سوريا. ويتابع البنك آثار هذا الصراع على الشعب السوري والاقتصاد السوري بالتشاور مع بلدان أخرى أعضاء في المجتمع الدولي. وهذا يساعد على إثراء التفكير الدولي بشأن سوريا من منظور اقتصادي واجتماعي وبناء الاستعداد لبذل جهود التعافي بعد التوصل إلى اتفاق، عندما يتم إقرار ذلك.
وفي عام 2017، أصدر البنك الدولي تقريرين حول تأثير الصراع السوري: (أ) تقدير للأضرار لكل من حلب وإدلب وحماة؛ و (ب) تحليل الآثار الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا أطلق عليه "خسائر الحرب". وبناء على ذلك، بين عامي 2011 و2016، قدرت الخسائر التراكمية في إجمالي الناتج المحلي بنحو 226 مليار دولار، أي حوالي أربعة أمثال إجمالي الناتج المحلي السوري في عام 2010. وتجاوزت الخسائر الناجمة عن اضطراب الاقتصاد بسبب الصراع تلك الخسائر الناجمة عن الدمار المادي بعامل بلغ 20. وكلما طال أمد الصراع، كان التعافي أشد صعوبة لأن هذه الخسائر تزداد مع مرور الوقت.
تحليل دوافع العودة الطوعية للاجئين السوريين
يركز برنامج الأعمال التحليلية للبنك الدولي على تحليل المسائل الخاصة بالسياسات المرتبطة بالصراع السوري. وتناول تقرير قدرة اللاجئين السوريين على العودة إلى ديارهم: تحليل اقتصادي واجتماعي (الصادر في فبراير/شباط 2019) المشكلة المعقدة المتمثلة في عودة اللاجئين. وبدعم من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يقارن هذا التقرير خصائص وسمات أكثر من 100 ألف سوري تحققت المفوضية من عودتهم بصورة طوعية إلى سوريا في السنوات ما بين 2015 ومنتصف 2018، بخصائص وسمات ملايين آخرين لم يعودوا في الفترة نفسها. وعند شرح أنماط العودة، يحلل هذا التقرير الأدوار التي تلعبها الخصائص الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية الفردية لهذه الفئات، فضلاً عن الأوضاع التي واجهتها في البلدان المضيفة والظروف السائدة في أماكنهم الأصلية في سوريا. وتضمن ذلك دراسة كل ما أدلى به اللاجئون (الإجابات على المسوح الاسطلاعية) وما فعلوه (قرارات العودة الفعلية).
وأظهرت النتائج أن اللاجئين يواجهون مفاضلة صعبة بين العيش في منطقة آمنة والحفاظ على جودة حياتهم. فعلى سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر بتأثير الحرب على الأطفال الملتحقين بالمدارس، ظلت نسبة التحاق الأطفال السوريين بالمدارس أعلى في سوريا مما كانت عليه في لبنان أو الأردن، ويرجع ذلك أساساً إلى أن العديد من اللاجئين السوريين اضطروا إلى اعتماد إستراتيجيات تكيف سلبية في بلدان اللجوء؛ وتسربت الفتيات السوريات من المدارس للزواج في سن مبكر، وتسرب الفتيان السوريون من المدارس لتحقيق دخل إضافي للمساعدة في إبقاء أسرهم على قيد الحياة. وبالنسبة لهؤلاء الأطفال، فإن تراكم رأس المال البشري يتوقف عند تركهم المدرسة، ويترتب على ذلك آثار مستمرة على رفاهتهم مدى الحياة.
كما أن تحسين ظروف اللاجئين لا يثنيهم بالضرورة عن العودة: فاللاجئون الذين يحصلون على وجبة واحدة إضافية يومياً يزيد احتمال عودتهم إلى سوريا بنسبة 15% مقارنة بغيرهم ممن لا يحصلون على هذه الوجبة. وتحققت أفضل النتائج - ليس فقط فيما يتعلق بالعودة ولكن أيضًا فيما يتعلق برفاهة اللاجئين ومضيفيهم والسوريين في سوريا - عندما تم استخدام أدوات متنوعة على مستوى السياسات، بما في ذلك المساعدة عند العودة واستئناف الخدمات ودعم المجتمعات المضيفة.
التخفيف من تداعيات الصراع السوري على الصعيد الإقليمي
في يونيو/حزيران 2020، أصدر البنك الدولي تقييما للأثر الاقتصادي والاجتماعي الإقليمي بعنوان "تداعيات الحرب". حلل هذا التقييم أثر الصراع السوري على منطقة المشرق كمياً، وحدد كيفية الوقوف على هذا الأثر. وخلص التقييم إلى أن الصراع السوري دمّر طرق التجارة الثنائية والعبور (الترانزيت)، وزعزع استقرار المنطقة، وأدى إلى أكبر أزمة نزوح منذ الحرب العالمية الثانية. ونتيجة لذلك، واجهت البلدان المجاورة لسوريا مزيجاً من تراجع النشاط الاقتصادي، وتدهور أسواق العمل، وزيادة معدلات الفقر، ومن شأن كل ذلك التأثير سلباً حتى على أكثر الاقتصادات تقدماً في العالم.
كما أشار التحليل إلى أن عدداً من مواطن الضعف الهيكلي المستمرة في المنطقة، بما في ذلك ضعف أو تدهور قدرة المؤسسات على الصمود، قد قلل من فعالية سياسات التخفيف التي وُضِعت للتعامل مع تأثير الأزمة السورية. وقد أدت النزعات القصيرة الأجل في وضع السياسات إلى انتشار الصدمات الناجمة عن الصراع السوري، مما أدى إلى زيادة كلفة الخدمات وعدم فعاليتها، وضياع الفرص الاقتصادية، ونقص التمويل اللازم للبرامج المعنية. ودعا التقرير إلى التحول الأساسي من سياسات التخفيف قصيرة الأجل إلى إستراتيجية إقليمية متوسطة الأجل تعالج المشاكل الهيكلية. وفي الوقت الذي تتطلع فيه بلدان المشرق إلى تحقيق التعافي، من الضروري اعتماد سياسات تأخذ في الاعتبار الترابط بين بلدان المنطقة وتسعى إلى توفير آفاق أفضل لشعوبها. ويتطلب النهج الذي يعالج القضايا العابرة للحدود - ومنها الهجرة والتجارة والبنية التحتية - التزامات محلية وإقليمية ودولية.
وبالإضافة إلى طرح تقارير تحليلية لإثراء السياسات، يتعاون البنك الدولي أيضاً مع مجموعة واسعة من الشركاء والمؤسسات المالية الدولية لمساعدة اللاجئين السوريين والبلدان المضيفة لهم على مستوى المنطقة. ويتيح البرنامج العالمي لتسهيلات التمويل الميسر للبلدان متوسطة الدخل التي تضم أعداداً كبيرة من اللاجئين شروطاً مواتية لتمويل أنشطة التنمية من خلال الجمع بين المنح التي يقدمها المانحون والقروض التي تقدمها بنوك التنمية متعددة الأطراف. وحتى الآن، ساند البنك البنك مشاريع تصل قيمتها لحوالي ثلاثة مليارات دولار في الأردن ولبنان، معظمها بشروط ميسرة، تعالج آثار أزمة اللاجئين السوريين بصورة مباشرة، وذلك بالسعي إلى مساعدة اللاجئين والمجتمعات المحلية المضيفة لهم.
وتدعم هذه المشاريع توفير فرص التشغيل والفرص الاقتصادية والصحة والتعليم والخدمات الطارئة لتعزيز قدرات الصمود والمجابهة على المستوى الاجتماعي والبنية التحتية المحلية. ويتولى البنك الدولي أيضاً إدارة الصندوق الائتماني لدعم لبنان في مواجهة أزمة اللاجئين السوريين الذي تأسس عام 2014 ليقدم تمويلاً في شكل منح للمشاريع التي تخفف من تأثير الأزمة السورية. وهذا الصندوق ممول من الصندوق الائتماني لدعم قدرات الدول وبناء السلام التابع للبنك، ومن المملكة المتحدة وفرنسا والنرويج وفنلندا وهولندا والسويد وسويسرا والدانمرك. وساند هذا الصندوق أيضاً مشاريع الطوارئ التي تعمل على تحسين خدمات التعليم والرعاية الصحية والخدمات البلدية وشبكات الأمان الاجتماعي.
آخر تحديث: 2022/10/20